بالرجوع الى كتب التراث الاسلامي للبحث في هذا العلم، وجد اشارات كثيرةتشير الى قيام علماء المسلمين قبل قرون عديدة بوضع قواعد هذا العلم، فهذاالمؤرخ احمد بن مصطفى طاش كبري زاده (698 هــ -1561 م) يقول عن علم الشروطوالسجلات: «وهذا باعتبار اللفظ من فروع علم الانشاء، وباعتبار مدلوله منفروع علم الفقه، وهو علم يبحث فيه عن انشاء الكلمات المتعلقة بالاحكامالشرعية، وموضوعه ومنفعته ظاهران، ومباديه علم الانشاء وعلم الفقه ولهاستمداد من العرف، والكتب في هذا العلم كثيرة يجدها من يطلبها».كما أورد مصطفى بن عبدالله الشهير بحاجي خليفة (1067 هــ - 1657 م) فيكتابه الشهير «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون وتحت عنوان: علم الشروطوالسجلات» قال: «وهو علم باحث عن كيفية ثبت الاحكام الثابتة عند القاضي فيالكتب والسجلات على وجه يصح الاحتجاج به عند انقضاء شهود الحال، وموضوعهتلك الاحكام من حيث الكتابة...» ثم عدد لنا اسماء العلماء المسلمين ممنألفوا في هذا الباب وبلغ عددهم عشرين عالما، وقال: ان هلال بن يحيى البصريالحنفي (245 هــ - 859 م) هو اول من الف في هذا الباب. العلامة شمس الدين محمد بن أحمد السيوطي التي أوردها في كتابه: جواهر العقود ومعين القضاة والموقعينوالشهود، واقتطفنا منها ما يلي: «... هو اني وقفت على كثير من كتبالمتقدمين في الوثائق والشروط، وأتيت على ما فيها من المصطلحات الحكمية... وانه لكتاب ختمت به كتب أهل هذه الصناعة، وأرجو ان يكون واسطة عقدهم،ورابطة مقتضياتهم، التي اليها يرجعون في حلهم وعقدهم...»نلاحظ ان المسلمين عرفوا علم الوثائق أو الدبلوماتيك، واطلقوا عليه علمالشروط والسجلات، وقد اقترن هذا بعلم الفقه، لأنه لازم القضاة والفقهاء فيمجالسهم، وأطلقوا على العامل في هذا الميدان اسم الشروطي أو كاتب الشروط،لأن هذا الشخص أوكلت اليه مهمة كتابة الأحكام والعقود الصادرة في مجلسالقاضي، لذا فقد عرّف الاستاذ محمد جاسم الحديثي علم الشروط بأنه: «هوالعلم الذي يبحث في كيفية تدوين الأحكام الشرعية على وجه يصح الاحتجاج به». صفات وشروطواشترط العلماء المسلون عدة صفات لا بد من توافرها في من يتولى كتابةالشروط والوثائق الشرعية، ولنا ان نقتبس من ابن ابي الدم الحموي قوله فيذلك: «.. يختار له كاتب عاقل فاضل أمين عدل، عارف بصناعة الشروط وكتابةالسجلات، ووضع الأحكام وترتيبها، جيد الخط حسن الضبط، بعيد عن الطمع، وانكان فقيها كان اشد استحبابا».ونلاحظ من الاقتباسات السابقة ان المسلمين انفردوا بذكر الصفات الواجبتوافرها في الشروطي أو كاتب الوثائق الشرعية، وهي تتلخص في الآتي: العدالة،والديانة، والأمانة، وفصاحة اللسان، وحسن الخط، ومعرفة العربية والفقهوالحساب، وان يكون خبيرا في المكاتبات الشرعية في كل حالة من بيع وتمليكووقف وغيرها، وضليعا في كتابة السجلات، وان يبتعد عن الكذب والطمع، وانيعرف مراتب الناس لكتابة الألقاب المناسبة لصاحب كل منصب.وذهب العلماء المسلمون الى خطوة أبعد من ذلك، ووضعوا اسسا وقواعد لكتابةتلك الوثائق، فيقول شهاب الدين أحمد النويري: انه ينبغي على الكاتب ان يبدأبكتابة البسملة، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكتب لقب المشهودعليه وكنيته، وبعدها يشرع في كتابة الحادثة، وبعد الانتهاء منها يؤرخ ماكتبه باليوم والشهر والسنة». وفي هذا الصدد قال ابن فرحون «... واذا كتبالموثق كتابا بدأ بعد البسملة بذكر لقب المقر واسمه واسم ابيه وجده... ثميؤرخ مكتوبه باليوم والشهر والسنة....» وهذا ما يعزز القول بان العلماءالمسلمين هم اول من وضعوا اسس هذا العلم وقواعده.كما اوردت كتب التاريخ مواقف عديدة تدل على اهتمام المسلمين بصحة متنالوثيقة، او ما اطلقنا عليه الصحة التاريخية او مضمون الوثيقة، لان ذلكسيساعد الوثائقي على معرفة صحة الوثيقة من زيفها، واورد لنا محمد عبدالرحمنالسخاوي (831 - 902هــ / 1427 - 1497) أقوالا عديدة حول اهتمام المسلمينبالمضمون، فهذا سفيان الثوري يقول: «لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهمالتاريخ»، وقال آخر: «لم يستعن على الكذابين بمثل التاريخ».
ونورد هنا مثالاً للتدليل على ما ذهبنا اليه، فقد اخرج بعض اليهود كتابا،وادعوا انه كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام باسقاط الجزية عن أهلخيبر، وزعموا بان فيه شهادة بعض الصحابة رضي الله عنهم، وذكروا بانه كتببخط علي ابن ابي طالب رضي الله عنه، وارسل الكتاب في عام 447هــ / 1055 الىرئيس الرؤساء ابي القاسم علي (397 - 450هــ / 1007 - 1059) وزير الخليفةالعباسي القائم بالله (422 - 467هــ / 1030 - 1075)، فعرضه على الحافظ ابيبكر الخطيب، فنظر فيه وقرأه، ثم قال: «هذا مزور»، فقيل له: «من أين لكهذا»؟، قال فيه شهادة معاوية، وهو إنما أسلم عام الفتح، وفتح خيبر كان فيسنة سبع (629م)، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وهو قد مات يوم قريظة قبل فتحخيبر (عام 8هــ / 30 - 629م) بسنتين، فاستحسن ذلك منه، واعتمده وامضاه، ولميعط اليهود ما طلبوا، لانهم اعتمدوا على وثيقة مزورة. ثلاث خطوات لدراسة الوثيقة * معرفة الوقائع * الدراسة والنشر * معرفة النتائج خلاصاتوبهذا نلاحظ ان المسلمين الأوائل هم اول من وضع لبنات هذا العلم، وسبقواالفرنسيين بمراحل وقرون عديدة، من اجل الحصول على معلومات دقيقة وصحيحة،تساهم في ايجاد وخلق كتابات ودراسات رصينة معتمدة لا يشوبها ادنى شك، ولميتشدد المسلمون في ذلك الا من خلال حرصهم الشديد للوصول الى الحقيقة.ونود ان نشير هنا باننا لا نستطيع ان نأخذ الوثيقة لوحدها مجردة، وانما يجبان توضع في اطارها التاريخي، بمعنى ان اي وثيقة تكشف لنا جانبا من الحدثالتاريخي، فحتى تتضح لنا الصورة علينا ان نرجع الى كتب التاريخ المعاصرةللحدث والكتب التي تناولت ذات الحدث وصدرت في وقت لاحق.وهذا يدفعنا لمعرفة الظروف التاريخية التي ساهمت في ايجاد الوثيقة، وهيمعرفة جميع الظروف والملابسات التي ساهمت في كتابة وثيقة معينة، ثم دراسةالوثيقة موضوع الحدث، وما تقدمه لنا من معلومات، واخيرا معرفة الامور التيترتبت على الوثيقة.وبهذا فان هناك ثلاث خطوات لدراسة اي وثيقة، وهي: الاولى معرفة الوقائعالتي سبقت وجود الوثيقة، والثانية دراسة ونشر الوثيقة، والاخيرة معرفةالنتائج التي ترتبت على الوثيقة، وهذا ما قصدنا به من قولنا لابد من فهمالوثيقة من خلال اطارها التاريخي، وباتباع هذه الخطوات نكون قد فهمناالاحداث التاريخية، وهذه المعرفة والفهم لظروف كتابة الوثيقة ستساعدنا علىقراءة الوثيقة قراءة صحيحة، ونستطيع ان نتحقق المعلومات الواردة في الوثيقةونصححها اذا لزم الامر.